الدواء تحت النار.. كيف تحوّلت الأنظمة الصحية إلى أهداف في النزاعات المسلحة؟
الدواء تحت النار.. كيف تحوّلت الأنظمة الصحية إلى أهداف في النزاعات المسلحة؟
كان يفترض أن تكون المستشفيات والمراكز الصحية آخر الأماكن التي تصلها ألسنة الحرب؛ مناطق محمية ترفع فوقها راية الحياد الإنساني.
وينصّ القانون الدولي الإنساني على ضرورة احترامها، لكن مشاهد الدمار في غزة وأوكرانيا والسودان تثبت أنّ في زمن النزاعات الحديثة، حتى الحق في العلاج لم يعد في مأمن، لتتحول المرافق الصحية من ملاذ إلى هدف استراتيجي، في خرق صريح للقانون الدولي واعتداء سافر على حقوق الإنسان الأساسية.
تغيّر تكتيكات الحرب
لأكثر من نصف قرن، كان يُنظر إلى المرافق الطبية كخط أحمر ينبغي عدم تجاوزه، لكن مع تغيّر طبيعة النزاعات، خصوصًا الحروب غير المتكافئة في المناطق الحضرية المكتظة، تحوّلت هذه المنشآت إلى أهداف تحت ذرائع مثل الاستخدام العسكري أو إيواء مسلحين.
في حرب غزة الأخيرة التي بدأت في أكتوبر 2023، استُهدفت مستشفيات رئيسية مثل الشفاء والأقصى، ما تسبب بخروج نصف الطاقة الاستشفائية في القطاع عن الخدمة، وفق وزارة الصحة الفلسطينية، أما في السودان، فقد تعرضت أكثر من 54 منشأة صحية للقصف أو الاقتحام منذ اندلاع النزاع في أبريل 2023 بحسب منظمة الصحة العالمية.
وتضررت مخازن الأدوية وخطوط إمداد الأكسجين، وفي أوكرانيا، وثقت الأمم المتحدة أكثر من 1650 حادثة عنف ضد المرافق الطبية منذ بداية الغزو الروسي في فبراير 2022.
ونوه خبراء إلى أنّ هذا الاستهداف لم يعد أضرارًا جانبية، بل تحوّل إلى تكتيك لكسر إرادة المدنيين، وإضعاف المجتمعات من الداخل عبر ضرب حقهم في الصحة.
أرقام تكشف حجم الكارثة
تدمير الأنظمة الصحية يتجاوز خسائر المباني ليصل إلى عمق المجتمع ففي قطاع غزة، تعرض أكثر من 150 مرفقًا صحيًا للقصف الكلي أو الجزئي، وخروج نحو 70% من المستشفيات عن الخدمة في ذروة الحرب، واستشهاد أكثر من 350 من الطواقم الطبية في أثناء أداء عملهم، بحسب نقابة الأطباء الفلسطينية، وتجاوز معدل إشغال المستشفيات 300% في بعض الفترات، وفق منظمة الصحة العالمية.
وفي السودان، تم تسجيل أكثر من 60 هجومًا مباشرًا على مرافق طبية حتى مايو 2025، وتعطّل الرعاية الصحية لنحو 12 مليون شخص، خصوصًا في الخرطوم ودارفور، إضافة إلى سرقة وتدمير 75% من مخزون الأدوية المنقذة للحياة في بعض الولايات.
وفي أوكرانيا وثقت الأمم المتحدة أكثر من 1800 حادثة عنف ضد منشآت طبية، وتدمير كامل أو جزئي لما يزيد على 400 مستشفى ومستوصف، وفقد ملايين الأوكرانيين إمكانية الوصول المنتظم للرعاية الصحية، خاصة في الشرق والجنوب. بحسب منظمة الصحة العالمية، يتسبب استهداف المرافق الطبية في زيادة معدلات الوفيات بنسبة تصل إلى 50% في بعض المناطق المتضررة.
موقف القانون الدولي الإنساني
تجرم اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية بشكل صريح استهداف المرافق الصحية والطواقم الطبية، وتخزين الأسلحة داخلها لتعريضها للخطر، وكذلك عرقلة وصول المساعدات الطبية.
واستهداف المستشفيات عمدًا يُعدّ جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
لكن ما يحدث على الأرض مختلف، غالبًا تُستخدم ذريعة الاستخدام العسكري لتبرير القصف دون تحقيق محايد، ويُضاف إلى ذلك غياب آليات مساءلة فعّالة، خصوصًا في النزاعات التي تشمل قوى كبرى أو دولًا خارج ولاية المحكمة الجنائية.
الجانب الحقوقي
يؤكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أن الحق في الصحة حق أساسي لا يجوز المساس به حتى في حالات النزاع.
ودعت المنظمات الحقوقية والأممية مثل منظمة المنظمات الحقوقية والأممية مثل منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس ووتش، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، مرارًا إلى احترام الحياد الطبي وإجراء تحقيقات مستقلة حول الهجمات، وتؤكد هذه المنظمات أن استهداف الأنظمة الصحية لا يخرق فقط قواعد النزاع، بل يمثل انتهاكًا جوهريًا للحق في الحياة والصحة والكرامة الإنسانية المكفولة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ووصف تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2024 الهجمات على المرافق الصحية بأنها وباء صامت، وأكد أن الاعتداءات لم تعد حوادث معزولة، بل باتت سمة متكررة للنزاعات المعاصرة.
ويرى محللون أن الحروب الحديثة تغيّرت جذريًا، حيث تصاعدت النزاعات غير المتكافئة، واختلطت خطوط القتال بالمناطق المدنية، وكذلك رغبة أطراف النزاع في شل قدرة المجتمع على الصمود عبر ضرب بنية الصحة، واستخدام اتهامات الاستخدام العسكري سلاحاً سياسياً وإعلامياً، وبذلك، تتحول المستشفيات من مناطق محمية إلى أهداف استراتيجية في إطار الضغط على المدنيين وزيادة كلفة الحرب على الخصم.
قرارات أممية
أصدر مجلس الأمن القرار 2286 عام 2016 الذي يُدين الهجمات على الرعاية الصحية، وأعادت الأمم المتحدة التأكيد على هذا المبدأ في عدة بيانات خلال حروب غزة وأوكرانيا والسودان، لكن حتى اليوم، لم تُفعل آليات المساءلة بحق المسؤولين، ما شجّع تكرار الانتهاكات.
وشددت اللجنة الدولية للصليب الأحمر على أن توفير الحماية الكاملة للأنظمة الصحية يجب أن يكون شرطًا أساسيًا في أي اتفاقيات وقف إطلاق نار أو مفاوضات سلام.
بين نصوص القانون وروحها، يظل الواقع مريرًا فالطواقم الطبية تُستهدف وتُعتقل، الأدوية تُحرم منها المدن، والمرضى يواجهون خطر الموت المضاعف، مرة بسبب القصف وأخرى بسبب انهيار نظام الصحة.
في زمن النزاعات الحديثة، لم يعد الدواء خارج دائرة النار، بل إن استهداف المرافق الصحية صار سلاحاً آخر في الحرب، يهدد أضعف الفئات ويقوّض أبسط حقوق الإنسان ممثلاً في الحق في الحياة والعلاج والأمان.